Admin Admin المدير العام
عدد الرسائل : 475 العمر : 34 العمل/الترفيه : طالب بكلية الطب البشرى تاريخ التسجيل : 06/10/2008
| موضوع: أقمار لا تنطفىء السبت أكتوبر 11, 2008 1:57 am | |
| الساعة الرابعة تماماً ولم تحضر، اعتاد عدم دقة مواعيدها، حتى أنه ذات يوم قال: أجمل ما فيك هذه الفوضى التي تملكينها.
هو حزين، وكلما تحرك عقرب الثواني حزنه يزداد، ويسيطر عليه شعور بأن مها لن تحضر. تحاصره أيديهم، يطبق أحدهم بيده على فمه، تبدأ عضلات فكه رقصها الجنوني المتصاعد، تتشنج شفتاه بأفعوانية مقرفة ، ها هو ابن خالها وبيمناه سكين ناصعة النصل ، يطبق السكين على عنق عادل الذي ينتفض بشكل متتابع، يضغط السكين على عنقه، يغيب عادل عن الوعي، يتهدل جسده فتنغرس السكين في عنقه، تجحظ عيناه، يهز بكل قواه، تنغرس السكين في عنقه أكثر فأكثر، تتصاعد منه غرغرة دامية..، تركوه يسقط على الأرض فاتسعت دائرة الدم حول جسده وخفت حشرجاته إلى أن ساد الصمت).
انتفض مذعوراً من تلك الغيمة التي عبرت خياله، تحسس رقبته، اتجه نحو المغسلة، نظر في المرآة، بصق في المغسلة، عاد بذاكرته إلى صباح الأمس، كانوا ثلاثة ولم يكن بجانبه أحد، آخر عبارة قالها ابن خالها: لو رأيناك ثانية معها يا بن......) سنذبحك.
قرأ ما كتبته في سجل المعرض الذي أقامه في بداية العام الدراسي الماضي: يوجد مشروع سكني أعلن عن مسابقة لعمال الطرش أرجو لك التوفيق فيها).
في ذلك اليوم لم يتبين إلا بشرتها البيضاء وشعرها الفحمي الطويل.
الساعة الرابعة وخمس دقائق ولم تحضر، مسح بنظراته أركان الغرفة ليتأكد من نظافتها وترتيبها فمنذ الصباح وهو مستنفر لتنظيفها، حتى جارته أم يحيى التي تعودت سفر زوجها، والتي حاولت التقرب إليه أكثر من مرة، سألته: هل أعلنوا في الراديو أن اليوم يوم نظافة؟!.
بعدعدة أيام، كان يجلس في مقصف الكلية فلفتت انتباهه وهي تقذف بقطعة نقود في الهواء، ثم تتلقفها وتقلبها على الطاولة سائلة: طرة أم نقش؟
اقترب منها، سألها: عفواً زميلة، هل بامكانك اخباري عن مكان المشروع السكني؟
ابتسمت وقالت: في حارة الأربعين(1)
ارتسمت على وجهه اشارة تعجب، سألها: أين تقع هذه الحارة؟.
- غداً تجدني بالمقصف في تمام الواحدة، وسأدلك على المشروع.
في هذه المرة لمح عينينها العسليتين.
ألقى نظرة على وجه مها في اللوحة المثبتة على الحامل، والتي شارفت الانتهاء، بدأ برسمها منذ شهرين عندما استأجر هذه الغرفة في منطقة جرمانا، وذلك بعد سماح صاحبة البيت أم حسين لها بالتردد إلى غرفته، حيث غمزت بطرف عينها اليسرى وقالت: مادامت خطيبتك.. وما دمت سترسمها فقط.. فما المانع؟!
الساعة الرابعة وعشر دقائق ولم تحضر، حدث نفسه: إذا حضرت.. سأضمها إلى صدري، سأقبل شفتيها بعمق وقوة، لن نذهب إلى أسامة، سنقيم هنا احتفالاً خاصاً، قد نسكر ونخرج إلى الشوارع، نتمايل، نصطدم بأعمدة الكهرباء، نغني..
في المقصف سألها: ما برنامج دروسك ليوم غدٍ؟
- من العاشرة إلى الثانية.
- إذن.. استعدي للذهاب إلى السينما من الثالثة إلى السادسة.
تركها دون أن يأخذ جواباً منها، وفي اليوم التالي سألها:
- جاهزة؟
- لماذا؟
- للسينما!
- لا.. سأحضر درساً في شعبة أخرى.
قلب شفتيه وقال بهدوء: حسناً، دروسك أهم دون شك.
استدار مبتعداً، لحقت به عند الباب، هتفت: إلى أين؟
- إلى السينما.
فهزت شعرها وصاحت: سأذهب معك.
الساعة الرابعة والربع ولم تحضر، اتجه نحو سترته المشنوقة على المشجب، أخرج من جيبها قصاصة الورق التي أرسلتها قبل يومين، قرأ للمرة الخمسين القصاصة: حبيبي عادل، مضطرة للسفر دون وداعك، فوالدتي مريضة وأرسلوا في طلبي، على كل حال ليست مشكلة، سأعود إلى دمشق يوم الثلاثاء، وأحضر إلى غرفتك في الرابعة.. ثم نذهب إلى بيت أسامة).
تمتم: الأيام تجري بسرعة.
مضى عام كامل على أول حفلة حضراها في دمشق، كانت بين يديه، وأنفاسها ترعى وجهه، الوقت يتقدم مثل سلحفاة، المدفأة تهدر، سرت في جسده سيالة التعب، علبة لفائفه فارغة ترمقه بتشف، والفنجان الناضب انغرست ضمن ثمالته أعقاب السجائر المحترقة، بين الفينة والأخرى ينظر إلى ساعته، وكلما تحرك عقرب الثواني حزنه يزداد، وشعور بأن مها لن تحضر يسيطر عليه بعد الذي حدث صباح الأمس.
الساعة الرابعة والثلث ولم تحضر، تضيق الغرفة إلى أن تصير زنزانة، وتضيق على الجسد المتهالك، سأل نفسه: هل تأتي من نهاية ذلك الشارع الفرعي بشعرها الذي عقدته على شكل ورقة دخان وبدلتها البنية، تسير بعجلة تشبه الجري، وعندما تصل تشبك يدها بيده.
عاد بذاكرته إلى المرة الأولى حيث سافرا معاً إلى دمشق، لأول مرة يشعر أن المسافة بين طرطوس ودمشق قصيرة.. وقصيرة جداً. في ذلك اليوم قدما معاً إلى غرفته السابقة في المزة القديمة، وقرر تنفيذ وعده والبدء برسمها، ولم يضع سوى خط واحد في اللوحة حتى جمدته المفاجأة، اقتحموا غرفته، أحس ببصقة ، وجهتها له أم زكوان تلك المرأة الدميمة صاحبة البيت، كانت تضرب فخذيها مولولة ومؤكدة بأن السكن في بيتها صار حراماً، وتصيح به: غداً. قبل صياح الديك تحمل أغراضك وترحل.
وراح بعض الجيران المشاركين في الاقتحام عند انصرافهم يرددون عبارات متفرقة:
- قلنا لك ألف مرة يا أم زكوان لا نريد شباباً أزعر في الحارة.
- جيل آخر زمن.
- أعراض الناس مضحكة.
لم ينطق ببنت شفه، لاحقهم بنظراته وهم يخرجون من الغرفة، أغلق الباب خلفهم بعصبية، مشى إلى المغسلة، فوق المغسلة المرآة، نظر في وجهه، وجهه يتلاشى، يتحلل خلية خلية، يتحول، يصير بيتاً منطفىء الأضواء نائماً، تخترقه قنبلة، فيستيقظ على صراخ الحجارة، يصير ملجأ تتراكم فيه الأشبال المذعورة، وفوقه تتساقط القذائف، ثم يصير مقبرة تتكدس فيها الجثث، وما هي إلا ثوان حتى بدأت شقوق المرآة المحطمة تشرب من دماء وجهه.
الساعة الرابعة والنصف، طرقات الباب أيقظته من شروده، تمتم: إنها مها.. فلطرقاتها على الباب ايقاع خاص.
فتح الباب، دخلت كالطوفان، لكن المفاجأة التي أصابتها أوقفت الطوفان، نظرت إليه برهة، سألته: ألن تذهب إلى الحفلة؟!
لم ينطق ببنت شفه، فأردفت: هل أنت مريض؟
قال بتلعثم بعد أن أخفى وجهه عن عينيها اللتين تلاحقانه: حسبت أنك لن تأتي.
- وما الذي دعاك إلى هذا التفكير؟
نبر بحزن: ماذا جرى بشأن ابن خالك؟
- وكيف علمت؟
- انتظرني عند باب الكلية في الأمس وفد محترم من أصدقاء ابن خالك.
- طلب يدي ورفضت.
- ولكنه دكتور، وقد اختص في فرنسا
- بعصبية)ط..
ابتسم، هو للمرة الأولى يسمعها تتفوه بمثل هذه الكلمة، عاد ثانية محاولاً استفزازها: إن أمك على حق.
- لا تكن تافهاً وسخيفاً، إذا عاودت التفوه بمثل هذه الحماقات فلن ترى وجهي.
مرت لحظات رصاصية، جلس عادل على الكرسي وراح يعزف شارداً، بينما اتجهت مها نحو النافذة.
استرعى انتباهها الحصار الذي فرضته ثلاثة قطط، وقد ارتفعت أذيالها لتشكل زوايا قائمة مع أجسامها، يحومون حول قطة، وهي تصرخ وتدافع عن نفسها.
السماء مغبرة الوجه، الجامع صامت، الكنيسة صامتة، والقطة ما تزال تصرخ وتقاوم، ها هي تلتف حول نفسها بسرعة، وتضرب القط الذي حاول اعتلاءها في رأسه، فيبتعد قليلاً جاراً أذيال هزيمته.
المارة يغدون في الزقاق بأعصاب مخدرة بالاعلانات والمسلسلات التلفزيونية، وبأحلام مريضة في الصدر، صمت ثقيل يجثم على الأفواه والأدمغة، والقطة ماتزال تصرخ وتقاوم، وأذيال القطط ما تزال تشكل زوايا قائمة مع أجسامها.
كم تتمنى لو تصرخ في وجوههم،... لو تبصق على وجوههم الباهتة، تذكرت كلمات جدتها عندما تابعتا معاً منذ سنتين معركة مشابهة: القطة لا تسلم نفسها إلا لمن ترغب).
عادل مستمر بتحديقه في صورة صديقيهما محمد وناهد المعلقة على الجدار، واللذين أصبحا أبا أريج وأم أريج اليوم، رفض أهلهما زواجهما فذهبا وحدهما إلى المحكمة، وأثناء حضورهما حفلة الزفاف التي أقامها الأصدقاء لهما، سألته مها عن رأيه بمحمد وناهد، قال لها: إنهما قمران لا ينطفئان.
كم تمنت لو شاركت تلك النسمة التي هبت في الزقاق بمسحها وجوه الأطفال الذين ظهروا من المنعطف، وتطوعوا للدفاع عن القطة، ثم تابعوا مطاردتهم لكرتهم الصغيرة.
نهض من مكانه، توجه نحوها، ضمها إلى صدره بقوة، طبع قبلة على وجنتها المحمرة، تمتم: أحبك أيتها المحاربة.
قالت بعد أن لكزته في خاصرته: بدل ملابسك بسرعة أيها الكسول فقد تأخرنا.
شيء ما كما الدم في جسم الانسان سرى في جسد الغرفة فأحيا محتوياتها، وأحالها لتدخل في طقوس الفرح، وتشارك في الغناء، ابريق الماء الساخن على المدفأة، القلم، الأوراق، الكتب، المرآة، المزهرية، سريره، الكراسي، الطاولة، الجدران، كل شيء، كل شيء.
تشرين الثاني- 1984
(1) حارة الأربعين: أكثر الجادات تسلقاً لسفح جبل قاسيون، ويضرب بها أهل دمشق المثل للشيء البعيد أو الصعب المنال.. | |
|